فصل: لطائف وفرائد للفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

قالت المعتزلة: إن ما ظهر من آدم عليه السلام من علمه بالأسماء معجزة دالة على نبوته عليه السلام في ذلك الوقت، والأقرب أنه كان مبعوثًا إلى حواء ولا يبعد أيضًا أن يكون مبعوثًا إلى من توجه التحدي إليهم من الملائكة لأن جميعهم وإن كانوا رسلًا فقد يجوز الإرسال إلى الرسول كبعثة إبراهيم عليه السلام إلى لوط عليه السلام واحتجوا عليه بأن حصول ذلك العلم له ناقض للعادة فوجب أن يكون معجزًا، وإذا ثبت كونه معجزًا ثبت كونه رسولًا في ذلك الوقت، ولقائل أن يقول لا نسلم أن ذلك العلم ناقض للعادة لأن حصول العلم باللغة لمن علمه الله تعالى وعدم حصوله لمن لم يعلمه الله ليس بناقض للعادة.
وأيضًا فأما أن يقال: الملائكة علموا كون تلك الأسماء موضوعة لتلك المسميات أو ما علموا ذلك فإن علموا ذلك فقد قدروا على أن يذكروا أسماء تلك المسميات فحينئذٍ تحصل المعارضة ولا تظهر المزية والفضيلة، وإن لم يعلموا ذلك فكيف عرفوا أن آدم عليه السلام أصاب فيما ذكر من كون كل واحد من تلك الألفاظ إسمًا لكل واحد من تلك المسميات، واعلم أنه يمكن دفع هذا السؤال من وجهين:
الأول: ربما كان لكل صنف من أصناف الملائكة لغة من هذه اللغات.
وكان كل صنف جاهلًا بلغة الصنف الآخر ثم إن جميع أصناف الملائكة حضروا وأن آدم عليه السلام عد عليهم جميع تلك اللغات بأسرها فعرف كل صنف إصابته في تلك اللغة خاصة فعرفوا بهذا الطريق صدقه إلا أنهم بأسرهم عجزوا عن معرفة تلك اللغات بأسرها فكان ذلك معجزًا.
الثاني: لا يمتنع أن يقال إنه تعالى عرفهم قبل أن سمعوا من آدم عليه السلام تلك الأسماء ما استدلوا به على صدق آدم فلما سمعوا منه عليه السلام تلك الأسماء عرفوا صدقه فيها فعرفوا كونه معجزًا، سلمنا أنه ظهر عليه فعل خارق للعادة فلم لا يجوز أن يكون ذلك من باب الكرامات أو من باب الإرهاص وهما عندنا جائزان وحينئذٍ يصير الكلام في هذه المسألة فرعًا على الكلام فيهما واحتج من قطع بأنه عليه السلام ما كان نبيًا في ذلك الوقت بوجوه: أحدها: أنه لو كان نبيًا في ذلك الزمان، لكان قد صدرت المعصية عنه بعد النبوة.
وذلك غير جائز، فوجب أن لا يكون نبيًا في ذلك الزمان أما الملازمة فلأن صدور الزلة عنه كان بعد هذه الواقعة بالاتفاق وتلك الزلة من باب الكبائر على ما سيأتي شرحه إن شاء الله تعالى والإقدام على الكبيرة يوجب استحقاق الطرد والتحقير واللعن وكل ذلك على الأنبياء غير جائز فيجب أن يقال وقعت تلك الواقعة قبل النبوة.
وثانيها: لو كان رسولًا في ذلك الوقت لكان إما أن يكون مبعوثًا إلى أحد أو لا يكون فإن كان مبعوثًا إلى أحد، فإما أن يكون مبعوثًا إلى الملائكة أو الإنس أو الجن والأول باطل لأن الملائكة عند المعتزلة أفضل من البشر ولا يجوز جعل الأدون رسولًا إلى الأشرف لأن الرسول والأمة تبع، وجعل الأدون متبوع الأشرف خلاف الأصل وأيضًا فالمرء إلى قبول القول ممن هو من جنسه أمكن ولهذا قال تعالى: {وَلَوْ جعلناه مَلَكًا لجعلناه رَجُلًا} [الأنعام: 9] ولا جائز أن يكون مبعوثًا إلى البشر، لأنه ما كان هناك أحد من البشر إلا حواء، وأن حواء إنماعرفت التكليف لا بواسطة آدم لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة} [الأعراف: 19] شافههما بهذا التكليف وما جعل آدم واسطة ولا جائز أن يكون مبعوثًا إلى الجن لأنه ما كان في السماء أحد من الجن ولا جائز أيضًا أن يكون مبعوثًا إلى أحد لأن المقصود من جعله رسولًا التبليغ فحيث لا مبلغ لم يكن في جعله رسولًا فائدة وهذا الوجه ليس في غاية القوة.
وثالثها: قوله تعالى: {ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ} [طه: 122] فهذه الآية دل على أنه تعالى إنما اجتباه بعد الزلة فوجب أن يقال إنه قبل الزلة ما كان مجتبى، وإذا لم يكن ذلك الوقت مجتبى وجب أن لا يكون رسولًا لأن الرسالة والاجتباء متلازمان لأن الاجتباء لا معنى له إلا التخصيص بأنواع التشريفات وكل من جعله الله رسولًا فقد خصه بذلك لقوله تعالى: {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124]. اهـ.
قال الفخر:
ذكروا في قوله: {إِن كُنتُمْ صادقين} وجوهًا:
أحدها: معناه أعلموني أسماء هؤلاء إن علمتم أنكم تكونون صادقين في ذلك الاعلام.
وثانيها: معناه أخبروني ولا تقولوا إلا حقًا وصدقًا فيكون الغرض منه التوكيد لما نبههم عليه من القصور والعجز، لأنه متى تمكن في أنفسهم العلم بأنهم إن أخبروا لم يكونوا صادقين ولا لهم إليه سبيل علموا أن ذلك متعذر عليهم.
وثالثها: إن كنتم صادقين في قولكم أنه لا شيء مما يتعبد به الخلق إلا وأنتم تصلحون وتقومون به وهو قول ابن عباس وابن مسعود.
ورابعها: إن كنتم صادقين في قولكم إني لم أخلق خلقًا إلا كنتم أعلم منه فأخبروني بأسماء هؤلاء. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} شرطٌ، والجواب محذوفٌ تقديره: إن كنتم صادقين أن بني آدم يفسدون في الأرض فأنبئوني؛ قاله المبرّد.
ومعنى {صادقين} عالمين؛ ولذلك لم يسغ للملائكة الاجتهاد وقالوا: {سبحانك}. اهـ. حكاه النقاش قال: ولو لم يشترط عليهم إلا الصدق في الإنباء لجاز لهم الاجتهاد كما جاز للذي أماته الله مائة عام حين قال له: {كَمْ لَبِثْتَ} فلم يشترط عليه الإصابة، فقال ولم يُصب ولم يُعنَّف؛ وهذا بيّن لا خفاء فيه.
وحكى الطبري وأبو عبيد: أن بعض المفسرين قال إن معنى {إن كنتم} إذ كنتم، وقالا: هذا خطأ.
و{أَنْبِئُونِي} معناه أخبروني. اهـ.

.قال الألوسي:

{إِن كُنتُمْ صادقين} أي فيما اختلج في خواطركم من أني لا أخلق خلقًا إلا أنتم أعلم منه وأفضل وهذا هو التفسير المأثور فقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أن الملائكة قالوا: لن يخلق الله تعالى خلقًا أكرم عليه منا ولا أعلم، وفي الكلام دلالة عليه، فإن {وَنَحْنُ نُسَبّحُ} [البقرة: 30] الخ يدل على أفضليتهم، وتنزيه الله تعالى وتقديسه أو تقديسهم أنفسهم يدل على كمال العلم أيضًا.
وقيل: إن المعنى {إِن كُنتُمْ صادقين} في زعمكم أنكم أحق بالاستخلاف أو في أن استخلافهم لا يليق فأثبتوه ببيان ما فيكم من الشرائط السابقة وليس هذا من المعصية في شيء لأنه شبهة اختلجت، وسألوا عما يزيحها وليس باختياري، ولا يرد أن الصدق والكذب إنما يتعلق بالخبر وهم استخبروا ولم يخبروا لأنا نقول: هما يتطرقان إلى الإنشاءات بالقصد الثاني، ومن حيث ما يلزم مدلولها، وإن لم يتطرقا إليها بالقصد الأول ومن حيث منطوقها، وجواب {إن} في مثل هذا الموضع محذوف عند سيبويه وجمهور البصريين يدل عليه السابق، وهو هنا {أَنبِئُونِى} وعند الكوفيين وأبي زيد والمبرد أن الجواب هو المتقدم، وهذا هو النقل الصحيح عمن ذكر في المسألة، ووهم البعض فعكس الأمر، ومن زعم أن {إن} هنا بمعنى إذا الظرفية فلا تحتاج إلى جواب فقد وهمَ، وكأنه لما رأى عصمة الملائكة وظن من الآية ما يخل بها، ولم يجد لها محملًا مع إبقاء {إن} على ظاهرها افتقر إلى ذلك، والحمد لله تعالى على ما أغنانا من فضله ولم يحوجنا إلى هذا ولا إلى القول بأن الغرض من الشرطية التوكيد لما نبههم عليه من القصور والعجز، فحاصل المعنى حينئذٍ أخبروني ولا تقولوا إلا حقًا كما قال الإمام. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {إن كنتم صادقين} إما أراد به إن كنتم صادقين في أنكم أفضل من هذا المخلوق إن كان قولهم: {ونحن نسبح} الخ تعريضًا بأنهم أحقاء بذلك، أو أراد إن كنتم صادقين في عدم جدارة آدم بالخلافة كما دل عليه قولهم: {أتجعل فيها من يفسد فيها} [البقرة: 30] كان قولهم: {ونحن نسبح بحمدك} [البقرة: 30] لمجرد التفويض أو الإعلان للسامعين من أهل الملأ الأعلى بالبراءة من شائبة الاعتراض على ما اخترناه.
ووجه الملازمة بين الإنباء بالأسماء وبين صدقهم فيما ادعوه التي اقتضاها ربط الجزاء بالشرط أن العلم بالأسماء عبارة عن القوة الناطقة الصالحة لاستفادة المعارف وإفادتها، أو عبارة عن معرفة حقائق الأشياء وخصائصها، أو عبارة عن معرفة أسماء الذوات والمعاني، وكل ذلك يستلزم ثبوت العالمية بالفعل أو بالقوة، وصاحب هذا الوصف هو الجدير بالاستخلاف في العالم لأن وظيفة هذا الاستخلاف تدبير وإرشاد وهدى ووضع الأشياء مواضعها دون احتياج إلى التوقيف في غالب التصرفات، وكل ذلك محتاج إلى القوة الناطقة أو فروعها، والقوى الملكية على شرفها إنما تصلح لأعمال معينة قد سخرت لها لا تعدوها ولا تتصرف فيها بالتحليل والتركيب، وما يذكر من تنوع تصرفها وصواب أعمالها إنما هو من توجيه الله تعالى إياها وتلقينه المعبر عنه بالتسخير، وبذلك ظهر وجه ارتباط الأمر بالإنباء بهذا الشرط وقد تحير فيه كثير.
وإذا انتفى الإنباء انتفى كونهم صادقين في إنكارهم خلافة آدم، فإن كان محل الصدق هو دعواهم أنهم أجدر فقد ثبت عدمها، وإن كان محل التصديق هو دعواهم أن البشر غير صالح للاستخلاف فانتفاء الإنباء لا يدل على انتفاء دعواهم ولكنه تمهيد له لأن بعده إنباء آدم بالأسماء لأن المقام مؤذن بأنهم لما أمروا أمر تعجيز وجعل المأمور به دلالة على الصدق كان وراء ذلك إنباء آخر مترقبًا من الذي طعنوا في جدارته ويدل لذلك أيضًا قوله تعالى لهم: {إني أعلم ما لا تعلمون} [البقرة: 30]. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
قوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأسماء كُلَّهَا}.
عموم قوله: الأسماء يقتضي الاستغراق، واقتران قوله سبحانه بكُلها يوجب الشمول والتحقيق، وكما علّمه أسماء المخلوقات كلها- على ما نطق به تفسير ابن عباس وغيره- علَّمه أسماء الحق سبحانه، ولكن إنما أظهر لهم محل تخصصه في علمه أسماءالمخلوقات وبذلك المقدار بأن رجحانه عليهم، فأما انفراده بمعرفة أسمائه- سبحانه- فذلك سِرٌّ لم يَطَّلِع عليه مَلَكٌ مُقَرَّب. ومن ليس له رتبة مساواة آدم في معرفة أسماء المخلوقات فأي طمعٍ في مداناته في أسماء الحق، ووقوفه على أسرار الغيب؟
وإذا كان التخصيص بمعرفة أسماء المخلوقات يتقضى أن يصحَّ به سجود الملائكة فما الظن بالتخصيص بمعرفة أسماء الحق سبحانه؟ ما الذي يُوجَبُ لِمَنْ أُكْرِمَ به؟
ويقال خصوصية الملائكة بالتسبيح والتقديس وهذه طاعات تليق بالمخلوقين؛ فإنَّ الطاعةَ سِمَةُ العبيد ولا تتعداهم، والعلم في الجملة صفة مدح يجب في نعت الحق سبحانه واجبًا لا يصحُّ لغيره، فالذي يُكْرِمهُ بما يتصف هو سبحانه بيانه وإن كان للمساواة أتم من الكرام بما يكون مخلوقًا على جنس المخلوقات.
ويقال أكرمه في السر بما علَّمه ثم بيَّن تخصيصه يوم الجهر وقدَّمه. ويقال قوله: {ثُمَّ عَرَضَهُمْ} ثم: حرف تراخٍ ومهلة.. إمّا على آدم؛ فإنه أمهله من الوقت ما تقررذلك في قلبه، وتحقق المعلوم له بحقه ثم حينئذٍ استخبره عما تحقَّق به واستيقنه. وإمّا على الملائكة؛ فقال لهم على وجه الوهلة: {أنبئوني} فلمَّا لم يتقدم لهم تعريف تحيَّروا، ولمَّا تقدم لآدم التعليم أجاب وأخبر، ونطق وأفلح، إظهارًا لعنايته السابقة- سبحانه- بشأنه.
وقوله: {إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فيه إشارة إلى أنهم تَعَرَّضوا لدعوى الخصوصية، والفضيلة والمزية على آدم، فعرَّفهم أن الفضل ليس بتقديم تسبيحهم لكنه في قديم تخصيصه. ولمَّا عَلِمَ الحقُّ سبحانه تَقَاصُرَ علومهم عن معرفة أسماء المخلوقات ثم كلَّفهم الإنباء عنها صار فيه أوضح دلالة على أنَّ الأمر أمرهُ، والحكمَ حُكمُه، فَلَهُ تكليف المستطيع، ردًّا على من تَوَهَّمَ أن أحكام الحق سبحانه مُعَلَّلَة باستحسان أرباب الغفلة بما يدعونه من قضايا العقول، لا بل له أن يلزم ما يشاء لمن يشاء، الحَسَنُ ما حكم بتحسينه والقبيح ما حكم بتقبيحه. اهـ.

.لطائف وفرائد للفخر:

قال عليه الرحمة والرضوان من الرحيم الرحمن:
هذه الآية دالة على فضل العلم فإنه سبحانه ما أظهر كمال حكمته في خلقه آدم عليه السلام إلا بأن أظهر علمه فلو كان في الإمكان وجود شيء من العلم أشرف من العلم لكان من الواجب إظهار فضله بذلك الشيء.
لا بالعلم، واعلم أنه يدل على فضيلة العلم الكتاب والسنة والمنقول، أما الكتاب فوجوه:
الأول: أن الله تعالى سمى العلم بالحكمة ثم إنه تعالى عظم أمر الحكمة وذلك يدل على عظم شأن العلم، بيان أنه تعالى سمى العلم بالحكمة ما يروى عن مقاتل: أنه قال: تفسر الحكمة في القرآن على أربعة أوجه: أحدها: مواعظ القرآن قال في البقرة: {وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مّنَ الكتاب والحكمة} [البقرة: 231] يعني مواعظ القرآن وفي النساء: {وَأَنزَلَ الكتاب والحكمة} [النساء: 113] يعني المواعظ ومثلها في آل عمران.
وثانيها: الحكمة بمعنى الفهم والعلم قوله تعالى: {وَاتَيْنَاهُ الحكم صَبِيًّا} [مريم: 12] وفي لقمان {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا لُقْمَانَ الحكمة} [لقمان: 12] يعني الفهم والعلم وفي الأنعام {أولئك الذين ءاتيناهم الكتاب والحكم} [الأنعام: 89] وثالثها: الحكمة بمعنى النبوة في [النساء: 54] {فَقَدْ ءاتَيْنَا ءالَ إبراهيم الكتاب والحكمة} يعني النبوة وفي [ص: 20] {وآتيناه الحكمة} يعني النبوة وفي [البقرة: 251] {وآتاه الله الملك والحكمة} ورابعها: القرآن في النحل {ادع إلى سَبِيلِ رَبّكَ بالحكمة} [النحل: 125] وفي البقرة: {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] وجميع هذه الوجوه عند التحقيق ترجع إلى العلم ثم تفكر أن الله تعالى ما أعطى من العلم إلا القليل قال: {وَمَا أُوتِيتُم مّن العلم إِلاَّ قَلِيلًا} [الإسراء: 85] وسمى الدنيا بأسرها قليلًا {قُلْ متاع الدنيا قَلِيلٌ} [النساء: 77] فما سماه قليلًا لا يمكننا أن ندرك كميته فما ظنك بما سماه كثيرًا.
ثم البرهان العقلي على قلة الدنيا وكثرة الحكمة أن الدنيا متناهي القدر متناهي العدد متناهي المدة.
والعلم لا نهاية لقدره، وعدده ومدته ولا للسعادات الحاصلة منه، وذلك ينبهك على فضيلة العلم.
الثاني: قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] وقد فرق بين سبع نفر في كتابه فرق بين الخبيث والطيب فقال: {قُل لاَّ يَسْتَوِى الخبيث والطيب} [المائدة: 100] يعني الحلال والحرام، وفرق بين الأعمى والبصير فقال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الأعمى والبصير} [الأنعام: 50] وفرق بين النور والظلمة فقال: {أَمْ هَلْ تَسْتَوِى الظلمات والنور} [الرعد: 16] وفرق بين الجنة والنار وبين الظل والحرور، وإذا تأملت وجدت كل ذلك مأخوذًا من الفرق بين العالم والجاهل.
الثالث: قوله: {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِى الأمر مِنْكُمْ} [النساء: 59] والمراد من أولى الأمر العلماء في أصح الأقوال لأن الملوك يجب عليهم طاعة العلماء ولا ينعكس، ثم انظر إلى هذه المرتبة فإنه تعالى ذكر العالم في موضعين من كتابه في المرتبة الثانية قال: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم} [آل عمران: 18]، وقال: {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِى الأمر مِنْكُمْ} ثم إنه سبحانه وتعالى زاد في الإكرام فجعلهم في المرتبة الأولى في آيتين فقال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله والراسخون في العلم} [آل عمران: 7] وقال: {قُلْ كفى بالله شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} [الرعد: 43] الرابع: {يَرْفَعُ الِلَّهِ الذين ءامَنُواْ منكم والذين أوتوا العلم درجات} [المجادلة: 11] واعلم أنه تعالى ذكر الدرجات لأربعة أصناف.
أولها: للمؤمنين من أهل بدر قال: {إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2] إلى قوله: {لَّهُمْ درجات عِندَ رَبّهِمْ} [الأنفال: 4] والثانية: للمجاهدين قال: {وَفَضَّلَ الله المجاهدين عَلَى القاعدين} [النساء: 95].
والثالثة: للصالحين قال: {وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصالحات فأولئك لَهُمُ الدرجات العلى} [طه: 75].
الرابعة: للعلماء.
قال: {والذين أُوتُواْ العلم درجات} والله فضل أهل بدر على غيرهم من المؤمنين بدرجات وفضل المجاهدين على القاعدين بدرجات وفضل الصالحين على هؤلاء بدرجات ثم فضل العلماء على جميع الأصناف بدرجات، فوجب أن يكون العلماء أفضل الناس.
الخامس: قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} [فاطر: 28] فإن الله تعالى وصف العلماء في كتابه بخمس مناقب، أحدها: الإيمان {والراسخون فِي العلم يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ} [آل عمران: 7] وثانيها: التوحيد والشهادة {شَهِدَ الله} إلى قوله: {وَأُوْلُواْ العلم} [آل عمران: 18] وثالثها: البكاء {وَيَخِرُّونَ لِلاْذْقَانِ يَبْكُونَ} [الإسراء: 109].
ورابعها: الخشوع {إن الذين أوتوا العلم من قبله} [الإسراء: 107] الآية.
وخامسها: الخشية {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} أما الأخبار فوجوه: أحدها: روى ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحب أن ينظر إلى عتقاء الله من النار فلينظر إلى المتعلمين فوالذي نفسي بيده ما من متعلم يختلف إلى باب عالم إلا كتب الله له بكل قدم عبادة سنّة وبنى له بكل قدم مدينة في الجنة ويمشي على الأرض والأرض تستغفر له ويمسي ويصبح مغفورًا له وشهدت الملائكة لهم بأنهم عتقاء الله من النار».
وثانيها: عن أنس قال: قال عليه السلام: «من طلب العلم لغير الله لم يخرج من الدنيا حتى يأتي عليه العلم فيكون لله ومن طلب العلم لله فهو كالصائم نهاره وكالقائم ليله وإن بابًا من العلم يتعلمه الرجل خير من أن يكون له أبو قبيس ذهبًا فينفقه في سبيل الله».
وثالثها: عن الحسن مرفوعًا «من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيى به الإسلام كان بينه وبين الأنبياء درجة واحدة في الجنة».
ورابعها: أبو موسى الأشعري مرفوعًا «يبعث الله العباد يوم القيامة ثم يميز العلماء فيقول: يا معشر العلماء إني لم أضع نوري فيكم إلا لعلمي بكم ولم أضع علمي فيكم لأعذبكم انطلقوا فقد غفرت لكم».
وخامسها: قال عليه السلام: «معلم الخير إذا مات بكى عليه طير السماء ودواب الأرض وحيتان البحور».
وسادسها: أبو هريرة مرفوعًا «من صلى خلف عالم من العلماء فكأنما صلى خلف نبي من الأنبياء».
وسابعها: ابن عمر مرفوعا «فضل العالم على العابد بسبعين درجة بين كل درجة عدو الفرس سبعين عامًا وذلك أن الشيطان يضع البدعة للناس فيبصرها العالم فيزيلها والعابد يقبل على عبادته لا يتوجه ولا يتعرف لها».
وثامنها: الحسن مرفوعًا قال عليه السلام: «رحمة الله على خلفائي فقيل من خلفاؤك يا رسول الله؟ قال الذين يحيون سنّتي ويعلمونها عباد الله».
وتاسعها: قال عليه السلام: «من خرج يطلب بابًا من العلم ليرد به باطلًا إلى حق أو ضلالًا إلى هدى كان عمله كعبادة أربعين عامًا».
وعاشرها: قال عليه السلام لعلي حين بعثه إلى اليمن «لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك مما تطلع عليه الشمس أو تغرب».
الحادي عشر: ابن مسعود مرفوعًا «من طلب العلم ليحدث به الناس ابتغاء وجه الله أعطاه أجر سبعين نبيًا».
الثاني عشر: عامر الجهني مرفوعًا «يؤتى بمداد طالب العلم ودم الشهيد يوم القيامة لا يفضل أحدهما على الآخر» وفي رواية فيرجح مداد العلماء.
الثالث عشر: أبو وافد الليثي: أنه عليه السلام بينما هو جالس والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر أما أحدهم فرأى فرجة في الحلقة فجلس إليها، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث فإنه رجع وفر فلما فرغ عليه السلام من كلامه قال: «أخبركم عن النفر الثلاثة:
أما الأول: فآوى إلى الله فآواه الله، وأما الثاني: فاستحيا من الله فاستحيا الله منه، وأما الثالث: فأعرض عن الله فأعرض الله عنه»
رواه مسلم، وأما الآثار فمن وجوه:
أ- العالم أرأف بالتلميذ من الأب والأم لأن الآباء والأمهات يحفظونه من نار الدنيا وآفاتها والعلماء يحفظونه من نار الآخرة وشدائدها.
ب- قيل لابن مسعود بم وجدت هذا العلم: قال بلسان سؤول، وقلب عقول.
ج- قال بعضهم سل مسألة الحمقى، واحفظ حفظ الأكياس.
د- مصعب بن الزبير قال لابنه: يا بني تعلم العلم فإن كان لك مال كان العلم لك جمالًا وإن لم يكن لك مال كان العلم لك مالًا.
ه- قال علي بن أبي طالب: لا خير في الصمت عن العلم كما لا خير في الكلام عن الجهل.
و- قال بعض المحققين: العلماء ثلاثة عالم بالله غير عالم بأمر الله، وعالم بأمر الله غير عالم بالله، وعالم بالله وبأمر الله.
أما الأول: فهو عبد قد استولت المعرفة الإلهية على قلبه فصار مستغرقًا بمشاهدة نور الجلال وصفحات الكبرياء فلا يتفرغ لتعلم علم الأحكام إلا ما لابد منه.
الثاني: هو الذي يكون عالمًا بأمر الله وغير عالم بالله وهو الذي عرف الحلال والحرام وحقائق الأحكام لكنه لا يعرف أسرار جلال الله.
أما العالم بالله وبأحكام الله فهو جالس على الحد المشترك بين عالم المعقولات وعالم المحسوسات فهو تارة مع الله بالحب له، وتارة مع الخلق بالشفقة والرحمة، فإذا رجع من ربه إلى الخلق صار معهم كواحد منهم كأنه لا يعرف الله وإذا خلا بربه مشتغلًا بذكره وخدمته فكأنه لا يعرف الخلق فهذا سبيل المرسلين والصديقين وهذا هو المراد بقوله عليه السلام: «سائل العلماء وخالط الحكماء وجالس الكبراء» فالمراد من قوله عليه السلام: «سائل العلماء» أي العلماء بأمر الله غير العالمين بالله فأمر بمساءلتهم عند الحاجة إلى الله استفتاء منهم، وأما الحكماء فهم العالمون بالله الذين لا يعلمون أوامر الله فأمر بمخالطتهم وأما الكبراء فهم العالمون بالله وبأحكام الله فأمر بمجالستهم لأن في تلك المجالسة منافع الدنيا والآخرة، ثم قال شقيق البلخي: لكل واحد من هؤلاء الثلاثة ثلاث علامات أما العالم بأمر الله فله ثلاث علامات أن يكون ذاكرًا باللسان دون القلب، وأن يكون خائفًا من الخلق دون الرب، وأن يستحي من الناس في الظاهر ولا يستحي من الله في السر، وأما العالم بالله فإنه يكون ذاكرًا خائفًا مستحييًا.
أما الذكر فذكر القلب لا ذكر اللسان، وأما الخوف فخوف الرياء لا خوف المعصية، وأما الحياء فحياء ما يخطر على القلب لا حياء الظاهر، وأما العالم بالله وبأمر الله فله ستة أشياء الثلاثة التي ذكرناها للعالم بالله فقط مع ثلاثة أخرى كونه جالسًا على الحد المشترك بين عالم الغيب وعالم الشهادة، وكونه معلمًا للقسمين الأولين، وكونه بحيث يحتاج الفريقان الأولان إليه وهو يستغني عنهما، ثم قال: مثل العالم بالله وبأمر الله كمثل الشمس لا يزيد ولا ينقص، ومثل العالم بالله فقط كمثل القمر يكمل تارة وينقص تارة أخرى، ومثل العالم بأمر الله فقط كمثل السراج يحرق نفسه ويضيء لغيره.
ز- قال فتح الموصلي: أليس المريض إذا امتنع عنه الطعام والشراب والدواء يموت؟ فكذا القلب إذا امتنع عنه العلم والفكر والحكمة يموت.
ح- قال شقيق البلخي: الناس يقومون من مجلسي على ثلاثة أصناف: كافر محض، ومنافق محض، ومؤمن محض، وذلك لأني أفسر القرآن فأقول عن الله وعن الرسول فمن لا يصدقني فهو كافر محض، ومن ضاق قلبه منه فهو منافق محض، ومن ندم على ما صنع وعزم على أن لا يذنب كان مؤمنًا محضًا.
وقال أيضًا: ثلاثة من النوم يبغضها الله تعالى.
وثلاثة من الضحك: النوم بعد صلاة الفجر وقبل صلاة العتمة.
والنوم في الصلاة، والنوم عند مجلس الذكر، والضحك خلف الجنازة، والضحك في المقابر، والضحك في مجلس الذكر.
ط- قال بعضهم في قوله تعالى: {فاحتمل السيل زَبَدًا رَّابِيًا} [الرعد: 17] السيل هاهنا العلم، شبهه الله تعالى بالماء لخمس خصال:
أحدها: كما أن المطر ينزل من السماء كذلك العلم ينزل من السماء.
والثاني: كما أن إصلاح الأرض بالمطر فإصلاح الخلق بالعلم.
الثالث: كما أن الزرع والنبات لا يخرج بغير المطر كذلك الأعمال والطاعات لا تخرج بغير العلم.
والرابع: كما أن المطر فرع الرعد والبرق كذلك العلم فإنه فرع الوعد والوعيد.
الخامس: كما أن المطر نافع وضار، كذلك العلم نافع وضار: نافع لمن عمل به ضار لمن لم يعمل به.
ي- كم من مذكر بالله ناس لله، وكم من مخوف بالله، جريء على الله، وكم من مقرب إلى الله بعيد عن الله، وكم من داع إلى الله فار من الله، وكم من تال كتاب الله منسلخ عن آيات الله.
يا- الدنيا بستان زينت بخمسة أشياء: علم العلماء وعدل الأمراء وعبادة العباد وأمانة التجار ونصيحة المحترفين.
فجاء إبليس بخمسة أعلام فأقامها بجنب هذه الخمس جاء بالحسد فركزه في جنب العلم، وجاء بالجور فركزه بجنب العدل، وجاء بالرياء فركزه بجنب العبادة، وجاء بالخيانة فركزها بجنب الأمانة، وجاء بالغش فركزه بجنب النصيحة.
يب- فضل الحسن البصري على التابعين بخمسة أشياء: أولها: لم يأمر أحدًا بشيء حتى عمله، والثاني: لم ينه أحدًا عن شيء حتى انتهى عنه، والثالث: كل من طلب منه شيئًا مما رزقه الله تعالى لم يبخل به من العلم والمال.
والرابع: كان يستغني بعلمه عن الناس، والخامس: كانت سريرته وعلانيته سواء.
يج- إذا أردت أن تعلم أن علمك ينفعك أم لا فاطلب من نفسك خمس خصال: حب الفقر لقلة المؤنة، وحب الطاعة طلبًا للثواب، وحب الزهد في الدنيا طلبًا للفراغ، وحب الحكمة طلبًا لصلاح القلب، وحب الخلوة طلبًا لمناجاة الرب.
يد- اطلب خمسة في خمسة:
الأول: اطلب العز في التواضع لا في المال والعشيرة.
والثاني: اطلب الغنى في القناعة لا في الكثرة.
والثالث: اطلب الأمن في الجنة لا في الدنيا.
والرابع: اطلب الراحة في القلة لا في الكثرة.
والخامس: اطلب منفعة العلم في العمل لا في كثرة الرواية.
يه- قال ابن المبارك ما جاء فساد هذه الأمة إلا من قبل الخواص وهم خمسة: العلماء، والغزاة، والزهاد: والتجار، والولاة.